منصور بن راشد السعدون
منصور بن راشد بن ثامر السعدون (حكم 1863/1853م) شيخ عشيرة آل سعدون من عرب العراق وأمير مشيخة عشائر المنتفق وأول باشا عينته الإدارة العثمانية على القبيلة. حكم القبيلة بعد أميرها السابق فارس بن عجيل السعدون سنة 1269هـ/1853م. حيث نال المشيخة بعد ترشيح ودعم والي العراق رشيد باشا الكوزلكلي له سنة 1853، شرط الموافقة على فرز «السماوة» وما يتبعها عن ديرة المنتفق وإلحاقها ب«لواء الحلة»، مع تنصيبه قائمقام المنتفق. وقد وافق منصور بالعرض، إلا أن سلطة بغداد استمرت في تقليص صلاحياته، فدخل جيشها الحكومي مدينة سوق الشيوخ التي هي عاصمة المنتفق سنة 1856م واتخذ ثكنة فيها وعيّن أحد ضباطها قائمقام المدينة، وعزل الشيخ منصور من حكم القبيلة. واستمر ذلك إلى سنة 1859م في ولاية عمر باشا الذي أعاد منصور إلى حكم القبيلة.[3][4] ثم سحبت منه سنة 1860م وأعطيت للشيخ بندر بن ناصر الثامر بعد مزاد جرى بينهما، ثم استردها بعد وفاة بندر سنة 1863م/1280هـ بعد ان اقنع الوالي محمد نامق باشا الشيخ منصور بإلغاء المشيخة وإبدالها بالوظيفة الحكومية وتعيينه قائمقام على المنتفق دون مسمى «الشيخ» وتحديد مرتب شهري قدره 30 ألف كيس، كما جرى منحه رتبة «مدير الإسطبل العامر» وهي رتبة عسكرية، فرحب منصور بتلك الخطوة التي ألغت المشيخة على القبيلة إلغاءًا نهائيًا.[5][6] وكان رد فعل قبيلة المنتفق على إجراءات إلغاء المشيخة بالرفض وتزعم ذلك الاتجاه الشيخ ناصر الأشقر شقيق منصور الذي قاد التمرد والعصيان وأحدث حالة من القلاقل والاضطرابات في عموم المنتفق.[7] فعزل نامق باشا الشيخ منصور وعين بدلا عنه الشيخ فهد العلي السعدون، فجرت بين الأميرين حرب انتهت لصالح فهد السعدون، واضطر الشيخ منصور بتسليم نفسه إلى الحكومة التي عفت عنه وابقته في بغداد إلى سنة 1879.[8] وفي سنة 1879-1880 فر الشيخ منصور من الإقامة الجبرية في بغداد وتوجه إلى قبيلته المنتفق حيث أعلن التمرد، فأرسلت إليه حكومة بغداد بجيش لقمع تمرده، فنشبت بينهما معركة استمرت 3 ساعات، قاومت فيها عشائر المنتفق مقاومة شديدة، إلا أن الجيش العثماني قد انتصر بالنهاية، وسيق الشيخ منصور باشا مخفورًا إلى إسطنبول. ثم انتقل بعدها إلى بغداد حيث توفي فيها سنة 1885م/1303هـ.[1]
منصور بن راشد بن ثامر السعدون | |
---|---|
أمير قبيلة المنتفق وأول باشا لها | |
في المنصب (1280/1269هـ) – (1863/1853م) | |
معلومات شخصية | |
الوفاة | 1303هـ / 1885م[1] مقبرة الشيخ عبد القادر الكيلاني في بغداد[2] |
الحكم
في ولاية الكوزلكلي
نال الشيخ منصور إمارة القبيلة بعد ترشيح والي العراق رشيد باشا الكوزلكلي في 1853، حيث أقنعه الوالي بتنصيبه أميرا على المنتفق، وأن يحميه ويمده بالعون العسكري شرط الموافقة على فرز «السماوة» وما يتبعها وعشائرها عن ديرة المنتفق بغرض إلحاقها ب«لواء الحلة»، وتعيينه قائمقام المنتفق. وقد وافق منصور بالعرض ولم يكن يعرف أن الهدف من سحب السماوة هو إضعاف قوة القبيلة أو إمارة المنتفق لتثبيت السيطرة الدولة المركزية في العراق.[3][4] ثم سار الشيخ منصور أمير المنتفق المعين ومعه قوة تقدر بعشرة آلاف مقاتل من القوات العسكرية النظامية تصحبها المدافع وقوات من عشائر زبيد برئاسة الشيخ وادي شلفح وعشائر الخزاعل برئاسة الشيخ مطلق كريدي الذرب لعزل الشيخ فارس بن عجيل بن محمد الثامر من مشيخة المنتفق. والتقى الطرفان قرب موقع مدينة الشطرة حاليا في فبراير 1853م/جمادى الأول 1269هـ، فكانت كفاءة أسلحة الجيش النظامي قد حسمت الأمر لصالح الشيخ منصور وقواته، فجرى اعتقال الشيخ فارس وإرساله لبغداد، حيث وضع قيد الإقامة الجبرية ومنع من مغادرة العاصمة بغداد.[3]
بعد أن حسمت الأمور له توجه نحو ديار المنتفق لممارسة صلاحياته أميرًا عليها مدعومًا من والي بغداد وقواته العسكرية، فتحسنت علاقاته بالحكومة المركزية. ففي حرب القرم 1853-1856م ظهرت نية الشاه ناصر الدين القاجاري في مهاجمة العراق نتيجة انشغال الدولة العثمانية بهذه الحرب بسبب تحالفه مع الروس، وقد اهتم الكوزلكلي بالأمر فجند الجنود وحشد قواته تجاه الحدود، وطلب من الشيخ منصور أن يستعد لمواجهة أي هجوم إيراني متوقع، وأناط به حفظ جنوب العراق. ومع هذا فإن الكوزلكلي لم يقنعه ذلك، فحين أتى الشيخ منصور إليه سنة 1854م لتجديد ولائه وطاعته وقدم مبالغ جسيمة من الضرائب والخراج التي قدرت بثمانين ألف شامي[ملحوظة 1] جمعها بشق الأنفس مع عدد من الجياد الأصيلة.[10] ومع ذلك فقد وجد الوالي أن الفرصة سانحة لتوجيه ضربة شديدة لإمارة المنتفق أزاء سلبية الأمير وتشبثه بالسلطة وتهافت المتنافسين الشديد. لا شك ان هدوء المنتفق في تلك الفترة ساعدته على تحصيل الضرائب السنوية والمتأخرات من العشائر الأخرى كانت الخزانة في أمس الحاجة لها في تلك الفترة، وأدرك الوالي أن الفرصة لا تعوض بتوجيه ضربة قوية لهذه الإمارة، لذلك أرسل الجيش العثماني فدخل سوق الشيوخ يوم 14 شعبان 1272هـ/19 أبريل 1856م بعد انتصار سهل على قوات منصور السعدون، واتخذ منها ثكنة عسكرية لبعض قواته بنية تثبيت سياسة القضم الحكومي، وفوق هذا عين كوزلكلي أحد قادة جيشه وهو حسين باشا قائمقام للمدينة.[10][6]
أبدى الشيخ منصور امتعاضه من اتخاذ الجيش العثماني مدينة سوق الشيوخ ثكنة له، وأعلن عن معارضته لذلك، فردت عليه الحكومة بإجراء مزايدة على مشيخة المنتفق فرسى المزاد على الشيخ «صالح بن عيسى بن محمد» الذي رفضه الشيخ منصور فجرت معارك بينهما، وكان الأمير الجديد مدعوما بالقوات الحكومية والعشائر الموالية للدولة. واستمرت تلك المعارك أكثر من شهر، آلت نتائجها لصالح الشيخ الجديد، ولكن منصور استمر في عصيانه على ما حدث فدخل بمعركة مع القوات الحكومية في مكان يقال له «المغيسل» عند نهر الفرات انتهت بهزيمة القوات الحكومية ومقتل قائدهم تركجة يلمز الذي قتله مشاري بن عبد الله بن ثامر السعدون.[11] ومع ذلك لم تكن نتيجة تلك المعركة حاسمة للشيخ منصور، فقد استمر الشيخ صالح في مشيخته متفرغا لإدارة شؤون الإمارة، إلا انه أحس بسوء نية الدولة المركزية تجاه حكم القبيلة وتدخلها السافر في إثارة الفتن، فقرر العصيان عليها حيث بنى قلعة حصينة سميت بقلعة صالح وامتنع عن تسديد القسط الأول من الخراج، فسارعت الدولة بعزله واعادت المشيخة إلى الشيخ منصور بعد أن ابتعد عنها لمدة عشرة أشهر تقريبا.[12] فشهدت أراضي المنتفق معارك استنزاف بين أتباع الشيخين نالت بالمحصلة من قوة القبيلة لصالح الدولة وسياستها. وبالنهاية تنازل الشيخ صالح عن المشيخة لإبن عمه منصور خوفا من تدمير القبيلة وقوتها.[13] وكان من المننتظر أن تتمخض تلك السياسة في إدخال سوق الشيوخ في النظام العثماني مثلها مثل بقية المدن العراقية ولكن شاء القدر أن يموت رشيد باشا في منتصف أغسطس 1857م، ويأتي العراق وال جديد وهو عمر باشا الذي خالف الكوزلكي في سياسته تجاه العشائر، فسحب القوات من سوق الشيوخ متخذا من وخامة الهواء وتردي صحة الجنود سببًا، وعلل بقدرته في تأديب عشائر المنتفق بطابور أو طابورين من الجيش عند تمردهم أو عصيانهم، [14] وأغلب الظن أن ضعف الدولة في أعقاب حرب القرم هو الذي حمل والي بغداد أن يتجنب استخدام الجيش في تلك الأحوال لتقليل النفقات، لذلك أعاد القائمقامية إلى الشيخ منصور سنة 1276هـ/1859م، [6]
في ولاية نامق باشا
في سنة 1277هـ/1860-1861م، أي أواخر حكم السلطان عبد المجيد الأول، تحالف شيوخ المنتفق والعجمان على الإغارة على أهل نجد. وفي طريقهم نزلوا البصرة للتزود بالتمور، فعاث عربانهم الفساد في مزارع النخيل، فتصدى لهم شيخ الزبير «سليمان بن عبد الرزاق الزهير» وأخرجهم من النخيل، ثم طاردهم إلى البادية حيث هزمهم، وقتل من المنتفق والعجمان خلق كثير. وخوفُا من مصادرة أملاكه وأملاك آل السعدون الكثيرة في البصرة اتصل الشيخ منصور[ملحوظة 2] بحاكم الزبير ومتسلم البصرة منيب باشا معربًا عن برائته مما بدر وما حدث ومؤكدًا ولاءه للدولة العثمانية، لذا فقد امتنع المتسلم عن التعرض لأملاك آل سعدون الواسعة في البصرة.[16][15] وفي ذات السنة مع بداية حكم الوالي نامق باشا وقيل الوالي توفيق باشا[17] أمر أن تكون مشيخة المنتفق التزاما لمدة ثلاث سنوات تبدأ بمزاد مالي ينالها من يلتزم بدفع المبلغ المالي الأكبر إلى الدولة، وتنتهي إذا ما قدم آخر التزاما ماليا أكبر، ويبقى المزاد محصورًا في أسرة السعدون ولا يحق لوجهاء المنتفق الآخرين الدخول فيه.[18] فوضعت مشيخة المنتفق في مزاد بين الشيخ منصور وبين الشيخ بندر بن ناصر الثامر حيث رست على الشيخ بندر بمبلغ 4900 كيس -الكيس 500 قرش، أي 5 ليرات ذهبية-[19] ومدة الالتزام كانت 3 أعوام، وكان ذلك بتاريخ 20 شوال 1277هـ/1860م، [17] ولم يخل التنصيب من سحب مقاطعات مملوكة للمنتفق ووضعها ضمن أملاك الدولة، وكان أبرزها أبو الخصيب وباب سليمان على شط العرب وشطرة العمارة المعروفة حاليا باسم قلعة صالح.[20] وعندما شارفت المدة على الانقضاء جرى تجديد المشيخة له ولمدة ثلاث سنوات، إلا أنه توفي بعد ترأسه المشيخة بعدة أيام فدفن في بغداد.[6][7]
وفي سنة 1863م/1280هـ أعرب الوزير نامق باشا عن رأيه بفصل بعض الأماكن عن المنتفق لتقليل سلطتها وحصر دائرة نفوذها في نطاق ضيق، فرد عليه منصور باشا -وكان حينها من أعضاء المجلس الأعلى لإدارة ولاية بغداد بعد عزله من مشيخة المنتفق- بإنه إذا ماتم إلغاء مشيخة المنتفق وتعيينه متصرفًا عليها فإنه سيجعلها كلها تابعة للدولة مثلها مثل سائر البلاد العثمانية،[21] وقيل أن الوالي تمكن من اقناع أمير المنتفق السابق منصور السعدون بإلغاء المشيخة وإبدالها بالوظيفة الحكومية وتعيينه قائمقام على المنتفق دون مسمى «الشيخ» وتحديد مرتب شهري قدره 30 ألف كيس، كما جرى منحه رتبة «مدير الإسطبل العامر» وهي رتبة عسكرية،[6] فرحب منصور بتلك الخطوة التي ألغت المشيخة على القبيلة إلغاءًا نهائيًا. ويعد أهم مظاهر النظام الجديد للدولة، ولاكمال تلك الإدارة بعث الوالي بسليمان فائق -المتحمس لإلغاء المشيخة- ليكون معاونًا له ومحاسبا. فحددت الحكومة الضرائب بما هو مطبق على غيرها، وألغت ضريبة الدم ومنعت منصور من مزاولة حق الإعدام. كما صدرت الأوامر بإنشاء مجلس في سوق الشيوخ يتألف من كبار الملاك والأعيان والتجار.[5][6] وقد قابلت قبيلة المنتفق إجراءات إلغاء المشيخة بالرفض وتزعم ذلك الاتجاه الشيخ ناصر الأشقر شقيق منصور الذي قاد التمرد والعصيان، بحيث كادت الأحوال أن تدفع المتمردين إلى قتل سليمان فائق لولا تدخل الشيخ منصور الذي وجد الأمر يمس شرفه وناموسه، ففر سليمان فائق بعد أن أقام شهرين في سوق الشيوخ.[22] وأحدث ذلك حالة من القلاقل والاضطرابات في عموم المنتفق، وبدأ العصيان واضحًا ضد الدولة حين بدأ المنتفقيون بتخريب وقطع أسلاك البرق بين بغداد والحلة.[7] فكتب الشيخ منصور إلى نامق باشا معلنًا ولاءه الشخصي، واشتكى بأن الزعماء التابعين له معترضون نوع الحكم الجديد وأن أخاه ناصر يؤلب عليه القبائل، وأنه وسليمان بك كانا في خطر شخصي وعاجزين عن ممارسة سلطاتهما بغير معاونة من جنود بغداد، وطلب منه أن يعينه ضد أخيه ناصر.[23] فأحس نامق باشا أن منصور يتلاعب به فعزله، وأعد حملة لإعادة قبضة الحكومة على ديرة المنتفق، وليضع حدًا لتدخل القنصل البريطاني في بغداد الذي أصر على أن يتصل بالثوار مباشرة لإعادة فتح خط البرق.[24]
عزل منصور وتمرده
عندما بدأ نامق باشا يعد العدة لحملته وردت إليه برقية من القيادة العامة في الأستانة تطلب منه التريث قبل الدخول في المعركة، وأغلب الظن ان القنصل البريطاني والسفير في الباب العالي كان لهما دورًا كبيرًا في إرسال تلك البرقية، فحملة نامق باشا ضد منصور كانت أيضا موجهة ضد النفوذ البريطاني المتصاعد بسرعة في جنوب العراق. فاضطر نامق أن يؤجل حملته، [25] ولكنه أصر على عزل منصور وتعيين فهد العلي الذي كان موجودًا في بغداد أثناء تلك الأحداث، والذي تعهد للوالي بتنفيذ ما اتفق عليه مع الشيخ بندر مع اشتراطه للوالي أن يصدر عفوًا عامًا عن جميع من اعتبرتهم الدولة خارجين عن القانون، قاصدًا بذلك منصور وأخيه ناصر، وقد أخذ خطابات الأمان بيده بعد أن قبل رئاسة المنتفق لمدة ثلاث سنوات بموجب شرطنامة كتبت بالعربية، وكان ذلك في 12 أكتوبر 1863م.[26]
إلا أن هذا الأمر لم يقبل به الشيخ منصور وأخوه ناصر، فاستعد الجميع للمعركة. فوقع المحظور بين أبناء المنتفق في «معركة الطينه»، وانهزم الأخوين أمام قوة الأمير الجديد المدعوم من بغداد. وذكر لوريمر في كتابه دليل الخليج أنه في خضم ثورة الشيخ منصور، جرى في أواخر سنة 1863م أن قامت عصابة من بدو الظفير على ظهور الدواب ومعهم رجال المنتفق المسلحين ببنادق تُشعل بالثقاب بسرقة بعض أعمدة التلغراف في قطاع الحلة، وكان يقود تلك العصابة عبد من عبيد الشيخ منصور، فأخذت السلطات التركية على عاتقها تأمين المتضررين من تلك الاضطرابات.[27] ثم أفرزت قوة خاصة بقيادة حافظ باشا لمطاردة الأخوين، فجرى أسر الشيخ ناصر، في حين اتخذ منصور من الصحراء ملاذا له، وكان الشيخ فهد العلي يتفقده ويخبره بحركات الجيش ضده، ولمحبته للشيخ منصور كان يود منه أن يسلم نفسه للسلطات للمحافظة على حياته. وقد كان منصور يتجول في الفيافي ويعيش بين العشائر المتوحشة، فضاق به الحال، فأرسل إلى سليمان فائق قائمقام البصرة عرضا بتسليم نفسه للدولة بشروط، ولكن حكومة بغداد أصرت على تسليم نفسه بدون شروط، فرفض منصور ذلك ولكنه عاد بعد فترة وسلم نفسه إلى قائمقامية البصرة دون شرط، ثم نقل إلى بغداد حيث قبل الوالي نامق باشا دخالته وعفا عنه.[8][28]
التمرد الثاني
خشيت الدولة العثمانية من أن يحدث الشيخ منصور باشا أي مشاكل لها في لواء المنتفق فأمرته بالإقامة في بغداد حيث عاملته باحترام وعينته عضوا في مجلس إدارة ولاية بغداد. وفي ولاية عبد الرحمن باشا الثانية لبغداد (1879-1880)، عبر منصور باشا نهر ديالى ومنه إلى نواحي الكوت ثم إلى الحي فاتصل به ابن أخيه فالح باشا السعدون فجمعا عشيرة آل سعدون وبقية عشائر المنتفق، حيث خطبا فيهم خطبًا أحيا فيه خلافهما مع الحكومة وأعلنا التمرد، فأجابتهما القبائل المجتمعة معهما. فشرع آل السعدون وحلفائهم بتحشيد القبائل، وبذل الشيخان منصور باشا وابن أخيه فالح باشا الأموال الطائلة لاستمالة الناس إليهما، ووزعا الخيول والأسلحة، وجلبا وسائط النقل والمؤن والوقود للاستعداد للمواجهة.[29] وقد استشارت الحكومة العثمانية عدة مرات الشيخ ناصر باشا السعدون الذي كان مقيما في إسطنبول وقتها رأيه في توتر الأوضاع في المنتفق، وقد أجاب في المرة الأولى بأن ثورة أخيه منصور لا أهمية لها، ولكنه عاد في مناسبات أخرى وقال بأن الموقف خطير وأن معالجته تكمن في حل الخلاف بين أخيه منصور والشيخ «قاسم باشا آل زهير» أحد أعيان الدولة في البصرة، واقترح عزل الشيخ قاسم لحل تلك المشكلة، وتأييدًا لرأيه أبرق منصور باشا إلى الديوان السلطاني في إسطنبول مشتكيًا من أن التمرد مرده بالأساس إلى الخلاف بينه وبين قاسم آل زهير. ولكن الحكومة لم تأخذ الأمر مأخذ الجد لا سيما بعد ورود أخبار بعودة الاستقرار إلى البصرة.[30]
ثم عاد التوتر من جديد بقيادة منصور باشا وابن أخيه فالح، فبدأت العشائر بطرد موظفي الدولة، والامتناع عن أداء الضرائب، وقطع أسلاك التلغراف، وإجراء التعبئة الواسعة، وتحشيد القبائل الأخرى في جنوب العراق.[31] فأرسلت الدولة 4 أفواج لتسكين الأوضاع في المنتفق، ولكنها لم تتمكن من تحقيق هدفها وكادت أن تيأس من تسكين التمرد، إلا أن الفريق «عزت باشا» قائد الجيش أصر على ضرورة القضاء على التمرد، فتسبب إصراره في عزل الوزير عبد الرحمن باشا سنة 1880م واستبداله بالوزير تقي الدين باشا الذي أيد موقف الجيش العثماني. وقد بذل عزت باشا جهودًا جبارة لسحق التمرد، خصوصًا بعد أن نصب منصور باشا نفسه «سلطان البر» وأعلن استقلال لواء المنتفق، وبدأ بمهاجمة لواءي العمارة والبصرة، حيث كان يهاجم البصرة ليل نهار، وقد انضم إليه الشيخ فهد العلي، بالمقابل استمر أخوه ناصر يخفف من خطر أخيه في أذهان الحكومة العثمانية في إسطنبول. وكانت الدولة متأثرة برأي الشيخ ناصر ولا تعتد برأي عزت باشا، بل كانت توبخه على ما كان يرسله إليها من تقارير ميدانية تخالف ما قد رسخ في أذهانهم من انطباعات عن حقيقة الأوضاع في المنتفق. إلا أن عزت باشا كان واثقًا من انتصاره ومصممًا على سحق التمرد بالقوة، لذا فقد أبرق إلى السلطان عبد العزيز مشتكيا من أن «دراهم السعدون شلت يد أعضاء من الحكومة عن العمل»، وهو يقصد أن آل السعدون قاموا برشوة كبار الموظفين وضباط الدولة لكسب تأييدهم.[32] وكان تأثير تلك البرقية قويًا على الحكومة، وتسبب في إرباك قرارها، إلا أن السلطان عبد العزيز رد على البرقية بما معناه أن الدولة لا يمكنها تحمل نفقات قوة عسكرية كبيرة، وإنه إذا أراد متابعة القتال فإن الدولة لن تمنعه بل وتفوضه مسؤولية ذلك.[33] فضمن الجيش العثماني بجميع مصاريف ونفقات تلك الحملة إن فشلت، وزاد من موقف الجيش تأييد والي بغداد تقي الدين باشا لهم.[34]
نهاية التمرد
توجه عزت باشا بما لديه من امكانيات مادية وبشرية محدودة حتى وصل إلى بلدة الحي، وعند وصولها أتاه أحد اليهود ومعه 30 ألف ليرة هدية من منصور باشا، فرفض عزت باشا تسلمها وكلف اليهودي أن يبلغ الشيخ منصور بأن ينقاد لأوامر الحكومة ويرجع عم أقدم عليه. ثم بقي 3 أيام في الحي ينتظر رد الشيخ منصور، وخلال تلك الفترة اتصل بأمير ربيعة واقنعه بالانفصال عن منصور باشا، وبعد مضي الأيام الثلاث دون رد من منصور باشا، تحرك عزت باشا نحوه بما لديه من قوة، فنشبت بينهما معركة دامية عند «نهر محيرقة» شمال الحي استمرت 3 ساعات، قاومت فيها العشائر مقاومة شديدة، إلا أن الجيش العثماني قد انتصر بالنهاية، وسيق الشيخ منصور باشا مخفورًا إلى إسطنبول. ثم نُقل بعدها إلى بغداد حيث توفي فيها.[1] أما ماتبقى من الجيش المتمرد فقد انسحبوا مع عوائلهم إلى بر الشامية بقيادة فالح السعدون وسعدون بن منصور حيث بقوا فيها لمدة شهرين، حتى وردتهم أنباء بأن الأمير محمد بن رشيد أمير حائل ينوي غزوهم بعد أن علم بأن لدى آل السعدون نقودًا وأموالا جمة سهلة السلب. فلما أحس فالح باشا وسعدون باشا بتحفز ابن رشيد للهجوم عليهم تركوا تلك المناطق وتوجهوا إلى الحويزة حيث نزلوا بجوار الشيخ مزعل بن جابر الكعبي أمير عربستان، فأكرم مثواهم وظلوا عنده مدة سنتين حتى سمحت الدولة العثمانية بعودتهم.[35]
وفاته
بعد نقل الشيخ منصور باشا إلى الأستانة حيث بقي فيها مدة، انتقل بعدها إلى بغداد وأقام فيها عدة سنين عاني منها من الأمراض، حتى توفي في سنة 1885م/1303هـ[1] وقيل توفي في 19 أغسطس 1886م عن عمر ناهز السبعين، ودفن في مقبرة الشيخ عبد القادر الكيلاني.[2]
الملاحظات
- الشامي هو القرش قبل ضرب الليرة العثمانية الذهبية زمن محمد رشاد ويقال له القرش الرومي وبقي اسم الشامي شائعا في البصرة وأنحائها، ويعادل الشامي 9 قروش ونصف حتى سنة 1914.[9]
- ذكر حسين الشيخ خزعل في كتابه تاريخ الكويت السياسي أن من حاكم المنتفق في تلك الفترة كان الشيخ ناصر بن ثامر وهذا الكلام غير دقيق، بل كان الشيخ منصور بن راشد هو الحاكم للمنتفق، ولا يوجد حاكم للمنتفق اسمه ناصر بن ثامر، ولعله يقصد ناصر الأشقر الذي حكم بعد أخيه منصور.[15]
المراجع
- باش أعيان 2019، صفحة 495.
- سعد سلطان السعدون. ص:142
- السعدون 1999، صفحات 187-189.
- الأنصاري، صفحة 317.
- السعدون 1999، صفحات 194-193.
- نوار 1968، صفحة 180.
- السعدون 1999، صفحة 195.
- السعدون 1999، صفحة 197.
- الأنصاري، صفحة 305.
- السعدون 1999، صفحة 190.
- السعدون 1999، صفحات 191-192.
- العزاوي، صفحة 105.
- السعدون 1999، صفحة 193.
- العزاوي، صفحة 129.
- خزعل، ص:124-125
- باش أعيان 2019، صفحة 492.
- سركيس 1948، صفحة 75.
- رحلة البزول وأيام النزول إمارة المنتفق (1546 – 1913م) جريدة الجريدة نسخة محفوظة 2023-11-18 على موقع واي باك مشين.
- سركيس 1948، صفحة 86.
- السعدون 1999، صفحة 196.
- باش أعيان 2019، صفحة 575.
- سركيس 1948، صفحة 76.
- لوريمر 1977، صفحة 2102.
- نوار 1968، صفحات 182-181.
- نوار 1968، صفحة 182.
- السعدون 1999، صفحات 196-197.
- لوريمر 1977، صفحات 2156-2157.
- مجموعة 2022، صفحة 505.
- باش أعيان 2019، صفحات 618-619.
- باش أعيان 2019، صفحة 493.
- المنتفق في ذاكرة التاريخ. سعد سلطان السعدون. دار جداول. ط:الأولى 2014. ص:136
- باش أعيان 2019، صفحات 492-494.
- باش أعيان 2019، صفحة 494.
- باش أعيان 2019، صفحة 619.
- تاريخ الكويت السياسي. حسين خلف االشيخ خزعل. دار ومكتبة الهلال، ط:1962. ج1، ص:145
المصادر
- لونكريك، ستيفن هيمسلي (2004). أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث (ط. 5). بيروت: دار الرافدين.
- باش أعيان، أحمد (2019). موسوعة تاريخ البصرة. لندن: دار الحكمة. ج. 2.
- السعدون، حميد حمد (1999). إمارة المنتفق وأثرها في تاريخ العراق والمنطقة الإقليمية 1546-1918 (ط. 1). بغداد: مكتبة الذاكرة.
- الأنصاري، أحمد نوري. النصرة في اخبار البصرة.
- البازي، حامد (1969). البصرة في الفترة المظلمة. بغداد: دار منشورات البصري.
- نوار، عبد العزيز سليمان (1968). تاريخ العراق الحديث، من نهاية حكم داود باشا إلى نهاية حكم مدحت باشا. القاهرة: دار الكاتب العربي للطباعة والنشر.
- العزاوي. موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين. الدار العربية للموسوعات. ج. 7.
- سركيس، يعقوب (1948). مباحث عراقية (PDF) (ط. 1). بغداد: شركة التجارة والطباعة المحدودة. مؤرشف من الأصل (PDF) في 2024-02-24.
- لوريمر، جون غوردون (1977). دليل الخليج، القسم التاريخي. الدوحة قطر: مكتبة أمير دولة قطر. ج. 4.
- مجموعة، من المؤرخين (2022). خزانة تواريخ المنتفق.
- بوابة أعلام
- بوابة الدولة العثمانية
- بوابة العراق