صفوق بن فارس الجربا

صفوق بن فارس الجربا وأحيانا تنطق صفوك (ولد: حوالي 1791م - توفي: 1263هـ / 1847م) شيخ قبيلة شمر في العراق العثماني وحاكم الجزيرة الفراتية، وقد تولى الحكم بعد وفاة والده فارس بن محمد الجربا سنة 1233هـ/ 1818م، وكانت له مواجهة مع والي كرمنشاه الفارسي في كركوك، حيث انهزم الوالي أمام صفوق وجيشه، فأكرمه الوالي داود باشا بأن انعم عليه بلقب وزير وأقطعه عانة، وأضحى ذا حظوة عنده.[2] وقد اتهم بأنه تعاون مع ابراهيم باشا اثناء احتلاله الشام، فاحتجز في الأستانة مدة ثلاث سنوات، إلى ان تعهد أمام السلطان محمود الثاني بمساندته ضد المصريين. وقد أطلق عليه السلطان لقب «سلطان البر»[3] لقب ب«المحزم» لأنه نادرًا ماكان ينزع الحزام من وسطه. استمر صفوق في حكم القبيلة حتى قُتِل غدرًا على يد الوالي نجيب باشا في نوفمبر-تشرين الثاني 1847م / ذو القعدة 1263هـ.[4]

صفوق بن فارس الجربا
شيخ شمر في الجزيرة الفراتية
في المنصب
1233هـ/ 1818 م – 1263هـ/ 1847 م
معلومات شخصية
تاريخ الميلاد حوالي 1791م
تاريخ الوفاة 1263هـ/1847م
الزوج/الزوجة عمشة الحسين آل عساف بنت شيخ طيء
سلمى بنت مطلق بن محمد الجربا
عبطا بنت بنية بن قرينيس الجربا
الأولاد فرحان، عبد الكريم، فارس، عبد الرزاق، عبد الرحمن، معجون[1]

البداية

ولد حوالي سنة 1791م أو بعدها في فترة عرفت عند البدو (بمصافك الأكوان) لكثرة المعارك بين شمر والقبائل الأخرى على أرض نجد.[5] وقد زوجه أبوه من عمشة بنت شيخ طيء سنة 1225هـ / 1810م، وله زوجتان أخريان هما سلمى بنت عمه مطلق بن محمد وعبطا بنت ابن عمه بنية بن قرينيس بن محمد[6]. إلا أن عمشة تلك فهي السيدة الطائية المبجلة عمشة الحسين العبد الله العبد الرحمن آل عساف، وابنها عبد الكريم الجربا،[7] قد ذكرتها الليدي آن بلنت بأنها أهم شخصية بعد الشيخ، وترى بلنت أنها شخصية نسائية من النوع الوقور الجليل، ومحط تقدير وإجلال بين كل القبائل في الجزيرة الفراتية، وأنها الآن عجوز سمينة، والبدانة مقبرة الجمال، وعلى الرغم من وهن جسمها وعجزها فهي إمرأة مبجلة، ومشيتها تعتبر بمثابة قانون في كل العشيرة.[8] وذكرها كييوم لجان أنها «تدير شؤون قبيلة شمر من وراء إسم إبنها، ولقد كان لزوجها الشيخ ثقة كبيرة فيها، وترسخت الثقة في قلوب أبنائها، وهي التي تجاوب على الرسائل التي ترد إلى إبنها، فهو يمثل جانب القوة وهي تمثل جانب الحنكة والعلاقات الجيدة، وبما أنها أُمِّية فقد اتخذت كاتبًا أمينا تملي عليه رسائلها ويقرأ الرسائل الواردة إلى ابنها».[9] أما الشيخ صفوق فقد وصفه الرحالة الإنجليزي ليارد بالتالي:«كانت عيونه براقة ومعبرة، تام الخلقة، يتميز عن أتباعه بثيابه الأنيقة، يتلفح بشال من نوع الضريب موردة الألوان فيها الأحمر والأصفر والأزرق ويضع على رأسه عقال، ويلتف بعباءة سوداء يظهر تحتها سروال أبيض».[10]

كانت أوضاع القبيلة في سنوات (1817-1818م) سيئة بعد أن عانت من اضطرابات داخلية وحملتين حكوميتين من الوزير داود باشا والي العراق، وداود باشا هو آخر الولاة المماليك، الذي جعل همه هو منع سيطرة القبائل على طرق المواصلات بين بغداد وأورفة وحلب عبر الصحراء الشامية. ففقدت بموجبها شمر السيطرة على تلك الطرق ومنها طريق بغداد-الموصل، فلم تتمكن من تحصيل ضريبة المرور للبضائع التجارية المارة عبر مضاربها. وفي سنة 1233هـ/ 1818م توفي الشيخ فارس الجربا فأخذ أخوه الشيخ عمر مكانه في زعامة شمر، ولكن بقي المضيف والمشورة في بيت الشيخ فارس وتحت رعاية ابنه صفوق لعدة أشهر، وبعدها تنازل الشيخ عمر فاستقر الوضع لصفوق في زعامة القبيلة في منتصف سنة 1819م.[11]

حكمه في عهد داود باشا

المواجهة مع الجيش الفارسي

فقدت قبيلة شمر الكثير من وضعها المتميز السابق في الجزيرة الفراتية، ولكنها بعد قيادة الشيخ صفوق استغلت اهتزاز وضع داود باشا (والي بغداد) الذي انشغل باعداد العدة لمواجهة وشيكة ضد هجوم فارسي وشيك سنة 1821م وذلك في عهد فتح علي شاه القاجاري. فبعد هزيمة جيشه بقيادة الكهية محمد آغا أمام الجيش الفارسي قاده محمد علي ميرزا للسيطرة على السليمانية انفتح الطريق أمام الفرس لحصار بغداد، حيث استعد داود باشا لها. ولكن لحسن حظ الوالي أن الجيش الفارسي ومعهم قائدهم سقطوا ضحية وباء الهيضة قبل أن يتمكنوا من محاصرة بغداد. ورغم ضعف الأوضاع إلا أنهم تمكنوا من إرسال عدة كتائب نحو عاصمة المماليك، والتقت إحدى تلك الكتائب بجماعة من شمر يقودها صفوق الجربا، فجرت سلسلة من المواجهات من الكر والفر بينهما تمكن مقاتلو شمر من دحر تلك الكتيبة.[12] فاضطر محمدعلي ميرزا تحت ضغط مرضه بالكوليرا ورغبته بتجنب حرب طويلة لا يعرف نهايتها أن يتصالح مع داود باشا ويعود بجيشه قافلًا إلى كرمنشاه، وقد مات في طريق عودته فخلفه ابنه محمدحسین میرزا الذي رفض ذلك الانسحاب وتلك الهزيمة، فعاود الكرة بالهجوم على بغداد سنة 1823. وفي منطقة الخالص وشهربان بدأت القبائل بمضايقة الجيش الفارسي المتقدم، فأحرقت المحاصيل التي في طريقهم. ثم اقتربت قوة من شمر مؤلفة من 800 مقاتل بقيادة صفوق من القوات الإيرانية، فلما رأى عباس خان اقتراب الخيالة العرب منه، أرسل إليهم نحو ألفي خيال من جيشه ليهجموا عليهم، فلما اقبلوا من قوات صفوق تظاهر بالانهزام كي يتبعونهم إلى أن عبروا جسر نهر ديالى الضيق، فعبر العجم الجسر وراءهم، فلما اكتمل عبورهم كر عليهم صفوق ورجاله وهاجموهم، فانكسر العجم وأرادوا عبور الجسر الضيق، ولكنهم ازدحموا عنده مما تسبب بمقتلة أفنتهم عن آخرهم إلا النزر اليسير، فأخذ سلاحهم وخيلهم وغنائم أخرى إلى الوزير داود.[13] وقد استخدمت قبائل بدوية أخرى نفس المخطط فنجحت في ذلك، وفوق ذلك عاد وباء الهيضة ليضرب الجيش الغازي مرة اخرى، فاضطر إلى العودة إلى دياره عابرا الحدود.[14] ونتيجة لتلك الخدمات أقطع داود باشا بلدة عانة وماوالاها من القرى والضياع إلى الشيخ صفوق، وكانت من قبل ملكًا لأمراء البوريشة.[15]

نزاعه مع القبائل الأخرى

امتد نفوذ شمر سنة 1821م من نهر الفرات في الجنوب إلى ماردين في الشمال، ومن الموصل ودجلة في الشرق إلى ماوراء الخابور غربًا. لكن توسعهم هذا قد سبب مشاكل واحتكاكات مع قبائل أخرى خصوصًا قبيلة عنزة.[16] فجرت بينهما في عهد صفوق حرب طويلة، حيث أجلى القحط والجدب عنزة والعمارات من الشامية إلى الجزيرة، فمنعتهم شمر عن مراعيها بين منطقة الموصل والخابور، فحاول عبد الله بن الحميدي بن هذال التفاهم معهم ولكن دون جدوى. فجرت معارك دامت شهرين انتهت بانتصار شمر على العمارات، وسميت بوقعة بصالة (1238هـ/1823م)،[17] فعبر عبد الله بن هذال نهر الفرات نحو بادية الشام، فأرسل إلى قبائل عنزة طلبًا للثأر، فاجتمعت عنده جموع ضخمة عبر بها الفرات في أيار مايو 1239هـ/1824 فالتقت بجموع شمر جنوب تلعفر عند سبيخة البويرات التي تشكلت من جداول صغيرة تنبع من سنجار وتحوي الماء المناسب لسقي الجمال في الصيف،[18] فطال المناخ بين القبيلتين مدة ثلاثة أشهر انتهت بانتصار عنزة، وسميت تلك الوقعة بالسبيخة (1239هـ/1824م). ومع ذلك فقد عوّض الوزير داود باشا صفوق الجربا من الأموال والنقد والمواشي والقرى والضياع مالم يسمع بمثله إلا في زمن البرامكة، وسمح له بالاستمرار في حكم عانه مؤكدا على دعمه وتأييده له ليس حبًا له ولكن ليجعله قادرًا على التصدي لعشائر عنزة إذا عمدت التوغل داخل العراق.[19] وتلك الحظوة والاحتواء جعلت من صفوق وقبيلته يعملون في خدمة حكومة بغداد، مرغمًا القبيلة على ترك غزواتها المعتادة وتخصص جهودها لكبح جماح العشائر البدوية والكردية واليزيدية لصالح والي بغداد، ولكن هذا التكيف لم يدم طويلًا.[20]

النفور من الوالي

ثار أهالي كربلاء على الوالي داود باشا سنة 1825م فأرسل إليهم قواته النظامية بقيادة سليمان ميراخور (أمير الإسطبلات) مع عدد من عشائر العرب، ومن ضمنهم كان الشيخ صفوق وقبيلته وعددهم 150 فارس وألف راجل، واستمرت المعارك مع الكربلائيين جولات انشقت في إحداها بندقية صفوق وأصابته إطلاقتها في كتفه، ثم جرى خلاف بين صفوق وبين سليمان مير اخور آمر القوات الحكومية انتهت باشتباك بين شمر وبين القوات الباشوية، انسحب صفوق على أثرها عن حصار المدينة ومعه قبيلة شمر وعاد إلى موطنه في جبل سنجار.[21] وفي سنة 1826م / 1242هـ ساهم الشيخ صفوق في دعم الشيخ عجيل بن محمد الثامر السعدون الذي عينه داود باشا أميرًا على قبيلة المنتفق بعد عزله الشيخ حمود الثامر عن المشيخة، فرافقه حتى وصوله إلى قبيلته حيث نصبته القبيلة شيخًا عليها.[22] وفي السنة التالية 1827م / 1243هـ أعلن صفوق تمرده وعصيانه لداود باشا بعد هزيمة قبيلته أمام قوات الوزير في واقعة نهر عيسى.[23][24]

عودة بغداد إلى الحكم العثماني المباشر

بعد مقتل صادق أفندي مبعوث السلطان محمود الثاني على يد الوالي داود باشا، طلب السلطان من والي حلب علي رضا باشا إعداد جيش ضخم للهجوم على بغداد وإلغاء حكم المماليك في العراق، فحشد رضا باشا قواته النظامية في حلب في كانون الثاني يناير 1831م / رجب 1246هـ، وانضم إليه الشيخ صفوق مع قواته من قبيلة شمر. وتحرك الجيش في بداية شباط فبراير من حلب نحو بغداد.[25] وكانت الدلائل تشير إلى أن جيش داود له القدرة على الصمود أمام قوات السلطان ومن تحالف معها، إلا أن الأقدار قد أصابت بغداد بفاجعتين طبيعيتين متتاليتين:أولهما اجتياح وباء الطاعون القادم من مدينة تبريز إلى العاصمة بغداد وتدميرها، ثم أعقب الوباء فيضان ربيعي كاسح لدجلة أكمل على ماتبقى من المدينة، فوجد داود باشا نفسه في موقف سيئ مما سهل من مهمة جيش رضا باشا.[26] وعند وصوله الموصل أرسل طلائع من قواته بقيادة والي الموصل قاسم باشا العمري ومعه الشيخ صفوق وسليمان الغنام شيخ بني عقيل إلى بغداد لحصارها، وقد دخلت القوات بغداد 1831، واتخذ الشيخ صفوك دارًا له في الجانب الشرقي من بغداد. ولكن عندما بدأت تلك القوات بنهب المدينة ثار الأهالي ومعهم ماتبقى من القوات الموالية لداود باشا في وجه قوات سليمان العمري، فاضطر الشيخ صفوق إلى الهروب من داره والعبور سباحة إلى الجانب الآخر من النهر وسحب قواته من قبيلة شمر خارج بغداد، في حين قتل سليمان العمري يوم 13 حزيران يونيو 1831م/ 3 محرم 1247هـ.[27]

بعد تلك الثورة قدم علي رضا باشا فحاصر بغداد لعدة أسابيع، وفي سبتمبر 1831م / ربيع الآخر 1247هـ سقطت المدينة بيد العثمانيين، وتولى واليها الجديد علي رضا باشا شؤون المدينة وأرسل واليها السابق داود باشا إلى الأستانة حيث أكرمه السلطان وأبقاه عنده. وخلال ذلك المرحلة دخلت قوات من شمر ومن بني عقيل السراي الحكومي وقاموا بتخريبه، وأخذ الشمامرة خزينة الدولة، وقد شارك في تلك المعركة الأمير عبد الله بن علي الرشيد حيث امتاز فيها بالشجاعة، وتمكن من أخذ سيف الوالي العثماني المسمى (الصرخة)، الأمر الذي جعل صفوق الجربا يعجب بشجاعة وبطولة ضيفه القادم من حائل.[28]

وإثناء احتلال المدينة جرى إطلاق جميع المسجونين، وكان في مقدمتهم الشيخ حمود الثامر أمير المنتفق السابق الذي قصد مباشرة صديقه القديم صفوق الجربا مستجيرًا به على الرغم من دوره في اغتيال الشيخ بنيه الجربا، إلا أن الشيخ صفوق أجاره وأحسن استقباله وأبقاه لديه حتى تهدأ الأمور.[29] وقام بعدها بإقناع رضا باشا بمهاجمه عجيل بن محمد الذي رفض الولاء للوالي الجديد مما دفع بالوالي أن يرسل إليه جيشًا لعزله، فأرسل حمود الثامر إلى أبنائه الموجودين في المحمرة بضرورة الإسراع لبغداد مع مناصريهم لتولي الإمارة، وفي أثناء انتظار مجيء أبناءه ببغداد أصيب بالطاعون فتوفي يوم 13 شعبان 1247هـ / 16 يناير 1832م.[30]

عهد علي رضا باشا

بعد سقوط داود باشا واستتباب الأمر إلى الوالي علي رضا باشا، رفض عجيل بن محمد السعدون البيعة للوالي الجديد، فأرسل الوالي إليه قوات عثمانية بقيادة بكرآغا جليلي وسليمان الغنام شيخ العقيل ومعهم ماجد بن حمود الثامر وأخويه فيصل وعبد العزيز، وطلب الوالي من صفوق الجربا أن يرافقهم دعمًا لتلك القوات، وهو الذي كان قد دعم عجيل سنة 1826م ولكنه الآن قد انقلب عليه ودعم أبناء حمود الثامر، وربما كان طلب الوالي من صفوق مرافقة تلك القوات هو التخلص منه وابعاده عن بغداد.[29] وقد دخل الطرفان في معركة استمرت إسبوعًا وسميت معركة الشطرة الثانية حيث جرت شمال الشطرة في مارس 1832م وانتهت بمقتل عجيل وتولي ماجد السعدون مشيخة القبيلة.[31]

معاركه (1832-1835)

بدأت الخلافات تطفو إلى السطح حين امتنع رضا باشا في منح ماوعد به إلى صفوق لقاء مساعدته في احتلال بغداد، وفوق هذا بدأ الباشا يقلص مناطق نفوذ قبيلته، فاغتاظت القبيلة من ذلك وبدأت بإزعاج قرى متعددة بطلب أتاوات غير قانونية، وانتزاعها رسومًا باهظة من مرور القوافل على أراضيها.[32] وفي أواخر 1832 أو بداية 1833 طالب صفوق بامتيازات أخرى من رضا باشا، ولكن الباشا رفض طلبه فأعلن صفوق تمرده.[33] فجرت معركة قرب الكاظمية انتصرت فيها قوات الدولة، فتراجعت قبيلة شمر نحو الموصل حيث ساندت «يحيى باشا جليلي» والي الموصل الذي تمرد مسبقًا.[34][35] ولم يأت شهر تموز يوليو 1833م حتى بدأ شيخ شمر وحليفه يحيى باشا يهاجمان العشائر اليزيدية في جبل سنجار التي كانت تغير على القوافل في طريق التجارة بين الموصل وماردين، ولما تمكنا من تحجيم تلك العشائر توجها نحو الموصل، حيث دخلاها وجرى تنصيب يحيى باشا واليًا عليها، فأعلن أنه تولاها من قبل إبراهيم باشا وقيادته المصرية في الشام،[36] وقد انتشرت إشاعات تقول أن مستشارين عسكريين من قوات إبراهيم باشا ابن محمد علي والي مصر كانوا في معسكر صفوق لمساعدته في تمرده ضد والي بغداد.[37] وبعد أن زوّده إبراهيم باشا بالبنادق والعتاد في أكتوبر 1833م توجه صفوق إلى بغداد لإسقاط الباشا بإمر من محمد علي كما قال تايلر القنصل الإنجليزي في بغداد،[38] واستمر مطبقًا عليها لمدة ثلاثة أشهر مما وضع الوالي في موضع حرج جدًا، ولكن القوات البدوية ليس لها مقومات فتح مدن أو خوض حروب طويلة المدى، فبدأ وطأة الحصار تخف رويدًا رويدًا، فاستغل الوالي بأن عزل يحيى الجليلي من ولاية الموصل وسلط عليه بعض القوات العثمانية ليشغل صفوق بذلك، وعزل كذلك صفوق من مشيخة القبيلة وعين بدلا منه «شلاش العمر». بالإضافة إلى ذلك اتفق الوالي مع الفدعان من عنزة على أن تقوم بقتال شمر الجربا حتى تبعدها عن بغداد مقابل حصولها على أراضي شمر الوفيرة المرعى شرط انتصارها عليها،[39][ملحوظة 1] إلا أن صفوق كان قد رفع الحصار وغادر قبل وصولهم لمساعدة حليفه يحيى الجليلي،[35][41] وقد يكون مقدم جموع غفيرة من عشائر عنزة قد أرغم صفوق على رفع الحصار.[37]

وعندما زال خطر صفوق من بغداد أوعز علي رضا باشا إلى شيوخ عنزة بعدم الحاجة إلى خدماتهم، ولكن القبيلة رفضت ذلك وادعت انها قامت بواجبها وهي الآن تطالب بالمكافأة، ولتأكيد مطالبها نقلت القبيلة خيامها إلى مكان قريب من بغداد. فخاف الوالي من وجود 35000 مقاتل عنزي بالقرب من بغداد فدعا «شلاش العمر» أمير شمر المعين من قبله لمساعدته فلبى النداء، فأدرك صفوق أن ابن عمه يخوض معركة غير متكافئة مع قبيلة عدد رجالها 35 ألف فطلب منه الانسحاب والالتحاق به في الشمال، إلا أن شلاش العمر رفض ذلك فأرسل صفوق إليه 2000 مقاتل لمساندته، ولكن مع ذلك فقد انتصرت عنزة في المعركة بتفوق عددها على القوات العثمانية وقبيلة شمر في «هور عقرقوف» في الموقع المعروف ب«أبي ثوب» يوم 28 أكتوبر 1834م، وقُتِل شلاش في المعركة وغنمت عنزة عددًا من المدافع العثمانية، ثم حاصرت بغداد ونشرت الفوضى في أنحاء الجزيرة، ولكنها عادت إلى مناطقها في الشام بعد ان هدأت الأوضاع فيها وعبرت الفرات سنة 1835م.[42][43]

القبض على صفوق

تدهورت مكانة شمر الجربا بعد هزيمتها أمام عنزة ولكن ظلت هيبة الشيخ صفوق عالية وإسمه مخيف ورغباته نافذة وكلمته قانون، وأصبح من أقوى شيوخ الجزيرة سنة 1835م ولقب ب«سلطان البر». ولكن لسوء حظه أن السنوات الإثنتي عشر التالية كانت حافلة بمآزق غير متوقعة أدت إلى إضعاف مركزه.[44] فوجود صفوق على رأس عشائر شمر الجربا كان كفيلا بأن يجعل حكومة بغداد في قلق دائم من أي تعاون مستقبلي بين صفوق وبين القيادة المصرية في الشام ضدهم، وكان رضا باشا يدرك أنه من الضروري التخلص من صفوق ولكن طريق القوة لن يحقق أي هدف، لذا عمد إلى اسلوب الخديعة والتآمر.[45] وفي سنة 1835م اندلعت اضطرابات في الجزيرة وماردين وتلعفر، مااضطر رشيد باشا الصدر الأعظم السابق ووالي الرقة وديار بكر الحالي إلى أن يقود جيشًا إلى تلك المناطق، وأنهى جميع التمردات في تلك المناطق.[46] ثم أعلن رشيد باشا بالاتفاق مع والي بغداد رضا باشا أنه سيخلع على الشيخ صفوق في حفلة تقام خصيصًا لذلك. وكان الشيخ صفوق في موقف لايحسد عليه، حيث أنه بحاجة إلى أن يتعاون مع حكومة بغداد بعد عزل يحيى جليلي والقبض على محمد بك ميركور حليفيه في التمرد، وما أن وصل إلى مقر الحفلة حتى قبض عليه مع ابنه فرحان وأرسلا إلى الأستانة تحت حراسة مشددة سنة 1835.[47] وقد ادى ابعاد صفوق عن العراق إلى ازدياد السيطرة العثمانية في منطقة الجزيرة وإلى تحويل الموصل إلى قاعدة هجومية ضد الوجود المصري في الشام. ولكن الاسلوب الذي اتبع في القبض على صفوق كان ممقوتا جدا لدى أهل العراق. علاوة على أنه أسلوب مكروه بصفة عامة.[48]

مُهِم أن نعلم أن للإنجليز يد في القبض على صفوق، فقد كانت لهم مصلحة كبرى في شد أزر الدولة العثمانية ضد الوجود المصري في الشام أو شبه الجزيرة العربية، فضلا عن أن تقوية قبضة الحكومة على قبيلة شمر الجزيرة يعين الإنجليز في تنفيذ مشروعهم الكبير بشأن استخدام العراق ليكون ممرًا قصيرًا للمواصلات بين الشرق والغرب -قبل انشاء قناة السويس- وذلك بتشغيل خط بواخر بين الموانئ الإنجليزية والساحل السوري، وبين أعالي الفرات والخليج العربي ومن ثم الهند. والوصول إلى تلك الأهداف الإنجليزية يتطلب تفاهم مع القبائل الكبرى المسيطرة على الطريق بين الساحل السوري ونهر الفرات وهي قبيلتي شمر وعنزة. لذلك كان عسيرًا على الإنجليز أن يتوصلوا إلى اتفاق ترضى عنه هاتين القبيلتين في وجود صفوق بالمشيخة، فإزاحته سهل لهم نجاح مفاوضاتهم مع شيخ شمر الجديد (محمد بن فارس الجربا) بشأن عقد صلح دائم بين شمر وعنزة، وبذلك كفل لهم التنقل بين الساحل السوري ونهر الفرات دون أن يتعرضوا لأي هجمات من تلك القبائل.[49]

وفي اسطنبول ألقوا على مسامع الشيخ صفوق أن السلطان العثماني هو حامي ذمار المسلمين، وأن الخروج عليه هو الخروج على الدين. وكان صفوق مستعدًا نفسيًا لقبول هذا الكلام بسبب تقاعس محمد علي باشا عن مساعدته خلال ثورته، وخاصة بعد أن عامله السلطان ورجاله معاملة طيبة، وتحملوا أخلاقه البدوية. فلا يوجد شيخ من داخل قبيلة شمر الجزيرة يمكنه جمع كلمتها تحت قيادة واحدة سوى صفوق.[50] وخلال السنوات الثلاث وهي مدة الحجز الإجباري في الأستانة لم يتأثر صفوق كثيرًا بالحياة المدنية وبذخ البلاط العثماني، ولكن على عكس ذلك فقط ظهر التأثير جليا في ابنه فرحان بن صفوق، حيث درس في مدرسة عثمانية وتعلم الكلام بالتركية وتذوق العادات والملابس التركية. ولم يسمح لصفوق بالعودة إلى الجزيرة الفراتية واسترداد المشيخة إلا بعد أن قدم وعدًا بمساندة السلطان ضد المصريين.[3]

عودته لحكم شمر

خلال مدة احتجازه في اسطنبول عينت الحكومة أخوه محمد بن فارس ليحكم القبيلة، فأيدته أفخاذ عبدة والأسلم والعليان وزوبع سنة 1836م وتحت لوائه 12 ألف فارس، في حين انضوت باقي قبائل شمر تحت راية الشيخ «نجرس الزيدان» الجربا، ولكن في أواخر 1837 بدأت تلك الأفخاذ بالتململ من شيخها الذي تسنده الحكومة وتمردت عليه. وحين عاد صفوق إلى الجزيرة سنة 1838م كانت القبيلة قد فقدت الوحدة التي كانت تتمتع بها سنة 1835م. وفي السنوات العشر التالية بذل صفوق قصارى جهده لإعادة وحدة قبيلته شمر.[51][52] وبعد أن قضى في الأستانة مدة احتجازه وإقرار السلطان له بلقب «سلطان البر»، وعد الحكومة العثمانية بتقديم 8 آلاف جمل وألف رأس من الخيل للمجهود الحربي العثماني ضد المصريين، إلا أنه بالحقيقة لم يتمكن من تقديم كل هذا العدد للقيادة العثمانية.[53]

معركة نزيب 1839

بدا الجيش العثماني في بداية 1839 يتحرش بالقوات المصرية في شمال الشام، فبدأت القوات المصرية تراقب تلك التحركات، وأيضا تحركات قبائل شمر وذلك بعد ورود أنباء بأن صفوق سوف ينشر رجاله على طول المنطقة الممتدة بين حماة ودير الزور وهي منطقة صحراوية توائم حروب الصحراء التي تتقنها القبائل البدوية. وانتقل صفوق وقبيلته ومعه عرب الفدعان من عنزة بقيادة دهام الكعيشيش نحو الرها (أورفا)، وقد أرسل إليهم والي حلب الطرابيش ليلبسوها أبان هجومهم ليظهروا مظهر جنود السلطان. وقد أتى صفوق إلى نهر البليخ ثم ذهب إلى صرين حيث طلب من والي حلب حافظ باشا أن يعطيه السفن اللازمة لنقل رجاله.[54] ومع ذلك لم يكن رجال قبيلة شمر إلا أداة لتشتيت الجهود الحربية المصرية، لأن المعركة الحاسمة هي التي ستكون بين الجيشين المصري والعثماني، حيث دارت المعركة يوم 27 ربيع الأول 1255هـ / 9 يونيو 1839م وانتهت بهزيمة شاملة للجيش العثماني. وكانت قوات صفوق قريبة من المعركة وشاهدت وقوع الهزيمة على العثمانيين، وأغلب الظن أن صفوق لم يلق بثقله في المعركة ولكن موقفه أصبح أكثر حرجًا، حيث طاردته القوات المصرية وأدرك أن لا قبل له بالتصدي للجيش المصري المنتصر فانسحب بقواته بسرعة تاركا دواب عشيرته لدى بعض القبائل الموالية له. ولما لم تجد القوات المصرية أثرًا لقبيلة شمر أنزلت العقاب بالعشائر التي أخفت دواب شمر لديها. وكانت ردة فعل علي رضا باشا الغاضبة هي عزل صفوق من المشيخة، فتمرد صفوق بعدما تبين له أن السلطان العثماني لا يمكنه حماية أرضه إلا بمساعدة الدول الأوروبية.[55][56]

وفي سنة 1841م طلب والي الموصل من علي رضا باشا أن تعود عانة إلى حكم الموصل، وكانت عانة قد أعطيت لصفوق الجربا مكافأة له على موقفه المشرف من الغزو الفارسي زمن داود باشا، وقد كان الوالي رضا باشا موافقًا على مضض على ابقاءها بيد صفوك، ولكن باشا الموصل الذي أراد أن تكون عانة تابعة له احتج على ذلك، وبعد نقاشات مطولة وافق علي رضا باشا على استرجاع عانة من صفوق وعزله وذلك أواخر 1841 أو أوائل 1842م. وردا على ذلك شن صفوك غارات على قرى نهر الخابور، وقد أرسل إلى بغداد للتفاض وذهب إلى الموصل لمفاوضة واليها، وقد حاول والي الموصل احتجازه لإرغامه على التخلي عن عانة، ولكنه هرب من السجن في نفس الليلة بفضل مساعدة التاجر «عبد القادر الجومرد» وأولاده، وتمكنوا أيضا من انزاله ليلا من على سور المدينة وإعطائه حصانا ليهرب به. وسبب المساعدة تلك هو تسديد الجومرد دينًا عليه لصفوق عندما تعرضت قافلته لهجوم من قطاع الطرق، وكان الشيخ صفوق ومعه رجاله قريبا من المكان فلجأ التاجر إليه، فأرسل صفوق 50 فارسًا لحماية القافلة حتى وصولها إلى الموصل سالمة.[57]

عهد نجيب باشا

ترتب عن انسحاب المصريين من الشام أن توجهت الحكومة العثمانية بقوة لتمكين سيطرتها على مختلف ولايات الدولة والقضاء على الزعامات والعصبيات المحلية التي تهدد وجودها في المنطقة. وقد تولى تنفيذ تلك السياسة في العراق محمد نجيب باشا (والي بغداد) الذي خلف علي رضا باشا سنة 1258هـ / 1842م واستمر في منصبه حتى سنة 1263هـ / 1847م، فنفذ نجيب باشا سلسلة من المؤامرات والاغتيالات لعدد من الزعماء العرب والأكراد، وكان من المفترض أن يوجه جهوده ضد صفوق ولكنه آثر التأني وإخفاء أهدافه إلى وقت لاحق وذلك لقوة قبيلته، لذا حاول تحسين علاقاته مع صفوق وإعادة مشيخة شمر إليه وخلع عليه في نوفمبر 1843.[58][59] ولكن في السنة التالية أي 1844م عين الوزير نجيب باشا شيخًا جديدًا لشمر لينافس صفوق وهو «نجرس الزيدان الجربا»، وقد كان نجرس قد أعلن نفسه شيخًا على عموم شمر عندما كان صفوق منفيًا إلى اسطنبول. وقد رفض صفوق هذا القرار مع أن الأوضاع لم تكن في صالحه، فشيخ شمر المطلق بدأ يفقد الكثير من مواهبه في المعارك، بالإضافة إلى أنه وسّط القنصل البريطاني روبرت تيلر ليكلم نجيب باشا في أكتوبر 1843م كي يعطيه امتيازات إضافية، وتلك إشارة واضحة لضعف قوته ومركزه، عدا أن الولاة العثمانيون كانوا سيئو الظن بتلك العلاقات الودية مابين الزعامات المحلية والدبلوماسيين الإجليز.[60][ملحوظة 2] هذا غير المجاعة الشديدة التي خيمت على الجزيرة الفراتية في 1844م استمرت عامين، فأعاقت صفوق الاستفراد بالسلطة بل وأرغمته على بيع مجوهرات نسائه الخاصة ومواشيه في الموصل لشراء حبوب للقبيلة، فخسر بذلك ثروته. فعندما يخسر شيخ القبيلة ثروته فإنه يخسر نفوذه في العشيرة، فساعد ذلك منافسه نجرس الزيدان المؤيد من الحكومة أن يتحدى صفوق في خدماته تجاه الحكومة والقبيلة.[62]

وفي خريف 1846م انتقلت قبيلة شمر من شمال بغداد نحو منطقة الموصل، فبدأت القبيلة بنهب العشائر الصغيرة جنوب حمام العليل، ثم دخل صفوك في منطقة نفوذ بدر خان الزعيم الكردي المتمرد قرب جزيرة ابن عمر. وبعد أن وطد نفوذه، أرسل إبنه فرحان إلى والي بغداد ومعه بعض الهدايا لاقناع نجيب باشا بإعادة تعيينه شيخًا عامًا لشمر، فاستجاب الوالي لطلب فرحان، ولكنه قلد المنصب لفرحان شرط تكون قيادة شمر لصفوق، بمعنى أن يكون صفوق زعيما غير معترف به، فأدرك صفوق انه أصبح شخصًا غير مرغوب به لدى السلطة العثمانية، وكذلك أفقد ذلك التعيين نجرس دعم حكومة بغداد له، وقد طلب الوالي من فرحان بأن يثبت مقدرته في الوقوف على قدميه وإدارة القبيلة. فقد كانت علاقات صفوق المريبة مع بدر خان بك الكردي تزعج نجيب باشا الذي وبخه الباب العالي رسميًا لإقراره بفرحان زعيمًا عامًا لشمر.[63][64]

مقتل نجرس الجربا

سعى فرحان أن يصفي المشاكل التي بين أبيه ونجرس حفاظا على كيان البيت الحاكم وعلى كيان القبيلة، فبدا لصفوق أنها فرصة لتحقيق أهدافه. فوجه دعوة لنجرس لعقد اجتماع كبير لشيوخ شمر لتصفية الضغائن، ولكن نجرس رفض قبول الدعوة لأنه يدرك أن صفوق مستعد بأن يقدم على أي عمل طائش في سبيل استعادة تفرده بالمشيخة. إلا أن صفوق أصر على أن يكرر الدعوة إليه، فأقنع إبنه فرحان بأن يدعو شخصيًا الشيخ نجرس إلى مضيفه، ولكن فرحان كان يخشى أن يحنث أبوه بوعده ويغدر بنجرس فيحمل هو وزر تلك الوساطة. لذلك أخذ من أبيه العهود بألا يصيب نجرس بأذى إذا ما حضر في صحبته. وبعدها ذهب فرحان إلى نجرس ليطمئنه ويزيل مالديه من مخاوف، حيث قدم إليه وعده الشخصي بالأمان إذا قام الأخير بزيارة الشيخ صفوق. وعلى هذا الأساس ذهب نجرس مع فرحان إلى الاجتماع، ودخل المضيف حيث استقبله صفوق، وأخذ الإثنان بالحديث حول زعامة شمر، وأوضح الشيخ صفوق الأخطاء التي وقع فيها الشيخ نجرس عندما نافسه على المشيخة، ولم يفض الحوار إلى شيء فخرج الشيخ نجرس من المضيف، فلحقه إثنان من أبناء عمومته وهما سميط الفهد وهجر العمر وقتلاه بسبب خلاف عائلي قديم بينهم.[65] في حين ذكر قول آخر أن الشيخ نجرس جلس بجانب صفوق، وبعد فترة وجيزة استل صفوق سيفه وقتل نجرس رغم توسلات ابنه فرحان.[63]

مقتله

اعتقد صفوق أن بمقتل نجرس -مهما كانت الوسيلة- فإن الجو سيخلو له ويستطيع أن يسيطر على قبيلة شمر بمفرده. ولكن ذلك الأمر لم يكن مقبولا عند القبيلة، فضعفت مكانته أكثر من ذي قبل، فدعت أفخاذ من القبيلة إلى انعقاد مجلس للقبيلة لاختيار زعيم جديد، حيث تمزقت القبيلة بعد حادثة القتل تلك، فاتهموا الشيخ صفوق بالتخطيط لقتله. فجرى انتخاب عيادة بن زيدان الجربا شيخًا على شمر، فانقسمت القبيلة بعد انتخابه بينه وبين صفوق. فاجتمعت الأفخاذ المؤيدة لعيادة مع عشائر أخرى بالقرب من ماردين لمحاربة صفوق. فتراجعت قوات صفوق نحو الشمال الشرقي إلى ديار بكر، فقدمت مساعدة حكومية من مشير ماردين قدرت ب 600 جندي لمساعدة أحد أبناء صفوق في إخضاع العشائر المتمردة من شمر. فغضب عيادة الجربا من مساندة الحكومة للشيخ صفوق، فبدأ مع محاربيه بشن غارات في كل اتجاه، فمن تلعفر غربي الموصل إلى شهرابان ومدن أخرى شرقًا وقام بسد معظم طرق الصحراء المؤدية إلى الغرب، فتسبب في إحداث فوضى عارمة، مما حدا لصفوق أن يطلب المساعدة من نجيب باشا لحماية نفسه، خاصة أن أحواله كانت في انتكاس مستمر بسبب تلك المشاكل، وأنه في أشد الحاجة لأي مساعدة خارجية تنشله من المأزق الذي وقع فيه، وسبّب بتفكك قبيلة شمر الجربا.[66][4]

رأى العثمانيون أن فرصتهم قد سنحت للتخلص منه، فأخطروه أنهم مستعدون لمساعدته عسكريًا ضد منافسه، فأرسل نجيب باشا إليه قوة عسكرية حكومية بقيادة إبراهيم آغا.[ملحوظة 3] فغادرت المفرزة تلك بغداد أواخر نوفمبر (تشرين ثاني) 1847م،[4] وعندما وصلت إلى صفوق جرى تقديم خطة يتم تنفيذها يوم المعركة، فاتفقا أن يتولى فرحان بن صفوق قيادة القوات المهاجمة، ثم يتبعه الجنود العثمانيون المرابطون بالقرب من خيام صفوق، وقد كان إبراهيم خلال وجوده لدى صفوق يتحين الفرصة المناسبة لقتله. وجاءت تلك الفرصة عندما خرج فرحان بكل قوات شمر للاشتباك مع العشيرة الثائرة، وما أن ابتعدت تلك القوات حتى أصدر القائد العثماني أمره إلى جنوده بالاستعداد لدخول المعركة، وبدلا من أن يشير بسيفه إلى إلى ميدان المعركة الحقيقي أشار إلى صفوق، فانقضت القوة العثمانية عليه وقتلوه ثم فصلوا رأسه عن جسده وأخذوا الرأس إلى بغداد ثم إلى الأستانة.[67][59]

مابعد وفاته

كان صفوق آخر الأمراء الذين حكموا قبيلة شمر بأكملها، فبلغت القبيلة بقيادته أوج قوتها العسكرية، ولكن ليحافظ على سلطته كان عليه أن يحل مشكلتين أساسيتين: الأولى هي وحدة القبيلة وتماسكها، والثانية هي تدخل الحكومة المركزية في شؤون القبيلة ومحاولتها تفكيكها. وفي نهاية حياته أخفق صفوق في حل كلتا المشكلتين.[68] وبمقتله تفككت القبيلة، وفر ابنه فرحان إلى قبيلة العمارات العنزية عند ابن هذال حتى لا يلقى نفس مصير أبيه. ومكث هناك سنة إلى أن عفا عنه نجيب باشا يوم 28 سبتمبر 1848 وأعاده إلى حكم القبيلة،[69] وقيل أن فرحان توجه بعد مقتل أبيه إلى الهندية جنوب بغداد، عند حليف والده الشيخ وادي بك الشلال شيخ قبيلة زبيد ومعه اتباعه ووسائط ركوبهم فقط، بعد ان أبقى أخوته عند بدر القعيط لفترة من الوقت.[70] وقد أسند الوالي مشيخة شمر إلى عيادة الجربا اولا، إلا أنه غير رأيه بعدها وعزل عيادة وأسند المشيخة إلى فرحان ليستعيد ثقة شمر ويتمكن منها.[71] ومع ذلك لم يتمكن فرحان من السيطرة على جميع أفخاذ شمر، وتحمل أمام حكومة بغداد ماتقترفه أفخاذ لا سيطرة له عليها، وكثيرًا ما وقع في حرج بسبب أفعال أخوته التي لا ترضي الحكومة.[72]

الملاحظات

  1. وفدت عشائر عنزة القوية إلى العراق هاربة من وجه القوات المصرية في الشام التي كانت تفرض عليها إما السكينة والاستقرار أو قتالها، ولم يكن في استطاعة تلك العشائر مقاومة جيش قوي ومنظم، فغادرت الشام إلى العراق أملا بالمساعدة من والي بغداد والتفاهم مع عشائر العراق في اقتسام المرعى. وما أن هدأت الأوضاع في الشام حتى عاد الفدعان من عنزة إلى الشام وانسحبوا من العراق.[40]
  2. زادت تلك الظاهرة بوضوح في القرن التاسع عشر. ومنها أن ناصر السعدون لم يقبل دعوة نامق باشا له إلا بعد أن حصل على تأكيد بسلامته من القنصل الإنجليزي في بغداد. وكذلك وسّط مطلق آل كريدي شيخ عشائر الخزاعل القنصل الفرنسي في بغداد ليشرح قضيته ليصفي المشاكل بينه وبين الوالي.[61]
  3. كان إبراهيم آغا ضابطًا من ضباط الهايتا، وكان شركسيا مسيحيًا ثم أسلم. واشتهر بتنفيذ مؤامرات ناجحة ضد الزعماء المحليين الثائرين ضد السلطان العثماني، وهو ماهر في التخلص من هؤلاء الزعماء بطريقته الخاصة. فكان يحتال لكي يصل إلى مجلس الأمير الثائر، ثم ينقض عليه فيقتله إما بالسيف أو بالرصاص فينتهي الأمر في سرعة خاطفة، فيعلن أن ذلك كان بأمر السلطان، فيأخذ رأس الضحية وينصرف بها إلى المسؤولين العثمانيين الذين كانوا ينتظرون نجاح مهمته.[67]

المراجع

  1. خضر 2002، صفحة 200.
  2. ابن سند 1952، صفحات 350-351.
  3. وليامسون 2014، صفحة 84.
  4. وليامسون 2014، صفحة 95.
  5. خضر 2002، صفحة 133.
  6. ابن عقيل الظاهري 1982، صفحة 42.
  7. الحمد 2003، صفحة 167.
  8. آن بلنت، قبائل بدو الفرات، ص:258
  9. علي عفيفي علي غازي. المرأة البدوية في كتابات الرحالة الغربيين. تبيين للدراسات الفلسفية والنظريات النقدية. العدد 25. المجلد السابع، صيف 2018، ص:127
  10. ابن سند 1952، صفحة 149.
  11. خضر 2002، صفحة 127-128.
  12. العزاوي 2002، صفحة 297-283.
  13. ابن سند 1952، صفحات 148-149.
  14. لونكريك 2004، صفحة 296-295.
  15. الحمد 2003، صفحة 160.
  16. وليامسون 2014، صفحة 71.
  17. الحمد 2003، صفحات 160-161.
  18. ابن سند 1952، صفحة 154.
  19. العزاوي، صفحات 299.
  20. وليامسون 2014، صفحة 72.
  21. خضر 2002، صفحات 146-147.
  22. عباس العزاوي، صفحة 294.
  23. عباس العزاوي، صفحة 299.
  24. خضر 2002، صفحة 147.
  25. علي الوردي، صفحة 277.
  26. وليامسون 2014، صفحة 74.
  27. خضر 2002، صفحة 150.
  28. خضر 2002، صفحات 150-151.
  29. خضر 2002، صفحة 151.
  30. حميد حمد السعدون، (1999). إمارة المنتفق وأثرها في تاريخ العراق والمنطقة الإقليمية 1546-1918 (ط. 1). ص:178 بغداد: مكتبة الذاكرة.
  31. السعدون، ص:179
  32. وزارة الهند:ل/ب اندس/9، رسائل سرية... 7/12/1843
  33. وليامسون 2014، صفحة 77.
  34. عباس العزاوي، صفحة 27.
  35. الحمد 2003، صفحة 162.
  36. وليامسون 2014، صفحة 78.
  37. نوار 1969، صفحة 132.
  38. خضر 2002، صفحات 158-159.
  39. وليامسون 2014، صفحة 79.
  40. نوار 1968، صفحة 165.
  41. نوار 1968، صفحة 164.
  42. وليامسون 2014، صفحة 80.
  43. خضر 2002، صفحة 164.
  44. وليامسون 2014، صفحات 80-82.
  45. نوار 1969، صفحة 136.
  46. لونكريك 2004، صفحة 342.
  47. خضر 2002، صفحات 166-167.
  48. نوار 1969، صفحات 138-139.
  49. نوار 1969، صفحة 139.
  50. غازي 2016، صفحة 201.
  51. وليامسون 2014، صفحة 85.
  52. خضر 2002، صفحة 176.
  53. خضر 2002، صفحة 183.
  54. الحمد 2003، صفحة 163.
  55. نوار 1969، صفحات 144-145.
  56. غازي 2016، صفحة 204.
  57. خضر 2002، صفحات 185-186.
  58. نوار 1969، صفحة 146.
  59. غازي 2016، صفحة 205.
  60. نوار 1968، صفحة 168.
  61. نوار 1969، صفحة 147.
  62. وليامسون 2014، صفحة 93.
  63. نوار 1969، صفحة 148.
  64. خضر 2002، صفحات 194-196.
  65. خضر 2002، صفحات 196-197.
  66. خضر 2002، صفحة 197.
  67. نوار 1969، صفحة 149.
  68. وليامسون 2014، صفحة 96.
  69. الحمد 2003، صفحة 165.
  70. خضر 2002، صفحة 205.
  71. نوار 1969، صفحة 150.
  72. غازي 2016، صفحة 206.

المصادر

  • خضر، ثائر حامد (2002). تاريخ آل محمد الجربا وقبيلة شمر العربية في إقليم نجد والجزيرة 1500-1921 (ط. 1). بيروت: الدار العربية للموسوعات.
  • ابن عقيل الظاهري (1982). آل الجرباء في التاريخ والأدب. الرياض.{{استشهاد بكتاب}}: صيانة الاستشهاد: مكان بدون ناشر (link)
  • وليامسون، جون فريدريك (2014). قبيلة شمر العربية. مكانتها وتاريخها السياسي 1800-1956. ترجمة: مير بصري. لندن: دار الحكمة.
  • المفضلي، مشعل بن مهجع (2014). الصلات الحضارية بين جبل شمر وجنوبي العراق. 1250-1340هـ/1835-1921م. بيروت: جداول للنشر والتوزيع.
  • العزاوي (1992). موسوعة عشائر العراق. بيروت: الدار العربية للموسوعات.
  • لونكريك، ستيفن هيمسلي (2004). أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث (ط. 5). بيروت: دار الرافدين.
  • ابن سند، عثمان (1952). مطالع السعود بطيب أخبار الوالي داود.
  • الحمد، محمد عبد الحميد (2003). عشائر الرقة والجزيرة، التاريخ والموروث. الرقة.{{استشهاد بكتاب}}: صيانة الاستشهاد: مكان بدون ناشر (link)
  • عباس العزاوي. موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين. الدار العربية للموسوعات. ج. 6 و 7.
  • علي الوردي. لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث. بيروت: دار الراشد.
  • نوار، عبد العزيز سليمان (1968). تاريخ العراق الحديث، من نهاية حكم داود باشا إلى نهاية حكم مدحت باشا. القاهرة: دار الكاتب العربي للطباعة والنشر.
  • نوار، عبد العزيز سليمان (1969). "آل محمد بيت الرئاسة في عشائر شمر الجربا، دراسة في الزعامة العشائرية العراقية في القرن التاسع عشر". المجلة التاريخية المصرية. ج. 15: 109–161.
  • غازي (2016). الجزيرة العربية والعراق في استراتيجية محمد علي (PDF). لبنان: دار الرافدين. مؤرشف من الأصل (PDF) في 2023-12-04.
  • أيقونة بوابةبوابة الدولة العثمانية
  • أيقونة بوابةبوابة العراق
  • أيقونة بوابةبوابة القرن 19
This article is issued from Wikipedia. The text is licensed under Creative Commons - Attribution - Sharealike. Additional terms may apply for the media files.